لعل مما لامراء فيه ان عالمنا المعاصر يعيش مرحلة صراع حضارات قائم على اطر ثقافية بعد ان أضحى الصراع العالمي الآن حضارياً وثقافياً وتقنياً فضلاً على ان مجتمعنا العربي يعاني اليوم من تناقضات التبعية والتجزئة والهامشية الحضارية لذلك فنحن إزاء تحد حضاري يدعونا الى تأصيل منظور حضاري جديد لا يتركز حول الماضي ويحاول العيش على ذكرياته ولا يغترب عن ماضيه ويتعكز على قشور حضارة غير موائمة لمجتمعه ولا نابعة من حاجاته لذلك فنحن بحاجة الى موقف نقدي قائم على الدعوة الى التجدد والنهوض الحضاري الذي يستلهم روح الحضارة الإسلامية الغرّاء لتكون قاعدة انبعاث حضاري يستند على قاعدة روحية عريضة تستشرف المستقبل مستفيدة من معطيات التراث الحضاري العربي الإسلامي لفذ ومعطيات

الحضارة المعاصرة لتحقق التكامل والتوازن بين الماضي والحاضر

أصبحت الحضارة الإسلامية ذات اثر كبير عالمياً بفضل الإسلام وتعاليمه في ضوء ما جاء في القرآن الكريم والسنّة النبوية والسلف الصالح ، فكانت بحق خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر ، فأقامت لنا حضارة أضاءت بها العالم اجمع في وقت كان في ظلام دامس وتخلف وجهل كبيرين

ومن بين الحضارات التي عرفها العالم في العصور الوسطى هي الحضارة الإسلامية ، لتحتل مكان الصدارة والزعامة ونجحت نجاحاً كبيراً في الاستفادة من الحضارات السابقة والمتنوعة ، ونجح بناة الحضارة الإسلامية في ابتكار حضارة إسلامية جديدة أسهمت في الارتفاع وارتقاء الحضارة الإنسانية ، ولم يتركوا مجالاً من ضروب النشاط البشري إلا أسهموا فيه بشكل كبير .

تعد الدراسات الحضارية واحدة من أهم مجالات الدراسة التاريخية وأكثرها مجالاً للحديث والدراسة ذلك ان الحضارة ارث إنساني لا يخص شعباً لوحده او امة لذاتها بل يعود للإنسانية جمعاء والحضارة العربية تمثل قمة الحضارات الإنسانية في القرون الوسطى حينما كان العالم بأكمله يستمد الضوء من هذه الحضارة التي أنارت للعالم سبل العلم من هذه الحضارة التي أنارت للعالم سبل العلم والمدنية وكانت فضلاً على ذلك حلقة الوصل بين حضارات العالم القديم والحضارة الأوربية المعاصرة وبغية توضيح مكانة الحضارة العربية الإسلامية بين الحضارات العالمية

يتضمن كتاب ” تاريخ العلوم عند المسلمين ” إبراز دور العرب المسلمين في بناء الحضارة الإنسانية وبصورة خاصة في مجال العلوم النقلية البحتة ومساهمة المسلمين في تقدم العلوم ، ولم يكن العرب المسلمين مجرد ناقلين ومترجمين للتراث العلمي اليوناني الى اللغة العربية ، بل تعدى دورهم مرحلة الإضافة والإكمال في كثير من العلوم ، بل الإبداع والتأليف في العديد من المجالات العلمية والأدبية والإنسانية ، فقد امتلك العلماء العرب المسلمين نظر علمي ثاقب وأساليب بحث تجريبي فضلاً عن المواقف النظرية في حقول المعرفة عامة .وان ابرز ما يلاحظ ويسجل للعلماء المسلمين صياغتهم للعلوم العلمية والمنهجية للعلوم البحتة على أسس تجريبية وعلمية دقيقة وترفض الخرافات والأساطير ، وتعتمد على البحث الجاد والبرهان للوصول الى الحقيقة ، كيف لا والقرآن الكريم هو كتابهم الأكبر ، قد قدم لهم رؤية واضحة وجلية في هذا المجال .وقد أدى العرب المسلمين دوراً بارزاً وواضحاً للحضارة الإنسانية ، ويتمثل هذا الدور في الحلقة الهامة التي وصل اليها العلماء المسلمين في التطور العلمي ، ففي الوقت الذي كان فيه رجال العلم يحاكمون ويضطهدون في أوربا ، كانت شمس الحرية العلمية والفكرية والرقي والإبداع الفكري والعلمي تسطع في الدولة العربية الإسلامية ، اذ كان المسلمون عامة من خلفاء ووزراء وولاّة وأثرياء وفقهاء ، يشجعون العلم ويعملون على نشره ، وأصبح العصر العباسي العصر الذهبي بحق في تقدم العلوم وكتابتها وتدوينها ، فلم يظهر في عصر من العلماء مثلما ظهر في العصر العباسي . وكانت الأموال الطائلة تنفق على العلماء والمتعلمين فازدهرت المدارس والمعاهد العلمية وازدهرت الكتابة والتأليف ، وتعد هذه الفترة من أبهى وأزهى عصور الدولة العربية الإسلامية نفتخر بها ونعتز ، فلقد حافظ العرب المسلمين على التراث والثقافات الإنسانية المتعددة وطورها وأبدعوا في مجالات كثيرة وابتكروا أشياء جديدة .ثم نقل علماء الغرب عن طريق الأندلس او الحروب الصليبية او الترجمة او التجارة او الاستكشافات الجغرافية هذا التراث الثمين ليبدؤوا فيه من هناك نهضتهم العلمية التي ما زالت في اضطراد وتقدم والتي لولا علوم المسلمين وثقافتهم ما كانت .

عندما الت الخلافة الى العباسيين نرى ان حلفاءهم في العصر العباسي الاول تقربوا الى العلماء وأكرموهم لتعزيز شرعيتهم من جهة والافادة منهم في تولي ادارة مؤسسات الدولة وتسخير خبراتهم ومؤهلاتهم العلمية فيها من جهة اخرى مما يسهم في استمالة العامة الى جانبهم ، فلقد عد الخلفاء انفسهم حماة الشريعة ومن رعاة علمائها والمستفدين منهم والسالكين في ضوء مشورتهم ، وهذا الكتاب يبحث طبيعة العلاقة بين الخلفاء والعلماء في هذا العصر العباسي الاول